Nombre total de pages vues

mardi 23 novembre 2010

الحذاء


انتقلت أمل عدّة مرّات بين هذا الرّصيف و ذاك من الشارع بحثا عن حذاء مناسب, و فكّرت أنّ محلّات بيع الأحذية في هذا الشارع محدودة العدد, و لو انتقلت الى مكان اخر لكانت لها فرصة أفضل للاختيار, وفي الوقت الذي همّت فيه بالعودة على عقبيها لتتجه نحو شارع آخر, لمحت على بعد  ثلاثين مترا دكان أحذية, فقالت في نفسها:" لا باس أن القي نظرة على واجهة هذا الدكّان قبل أن ارجع." ووقفت تتأمل الأحذية المعروضة في شيء من الفتور, إلى أن وقع نظرها على حذاء صيفي نصف كعب ابيض اللون ,فاستحوذ على اهتمامها, وراحت تتأمل دقائقه و تمعن النظر في صنعته, وتحاول أن تقرا نوع الماركة التي يحملها, و أعجبت أيّما إعجاب بزهرة صفراء فاقعة كانت تتوسط أحزمته الجلدية الرقيقة, و تضفي عليه جمالا أخّاذا. وحدّثت نفسها قائلة:" يبدو أنّ هذا الحذاء هو بُغيتي التي ابحث عنها." و كان الثّمن أخر شيء يستوعب ذهنها, و بدا لها ثمنه في متناول قدرتها. دلفت إلى المحلّ وطلبت مقاس 39 وأحضرت البائعة الحذاء, وساعدتها على لبسه, وعلّقت وهي تبتسم:" كأنّه صنع خصيصا لرجلك." فشكرتها على المجاملة, و قامت من مكانها وخطت بعض الخطوات على الأرضية المخملية للمحلّ, وهي تتطلّع إلى قدميها في المرآة الكبيرة مستوى الأرضية والمستندة إلى الجدار, وبعد أن اطمأنّت على جمال الحذاء في رجليها, طلبت من البائعة أن تحزمه لها, وتقدّمت إلى الصندوق لتدفع الثمن, ولم تنس وهي تتسلّم الحذاء من البائعة أن تنفحها بإكرامية مناسبة. خرجت من المحل وهي تحمل الحذاء داخل كيس بلاستيكي جميل, واتجهت نحو السّاحة القريبة من هناك, وأحسّت كانّ عينان ترقبانها عن كثب, فتبادر إلى ذهنها للوهلة الاولى أن يكون سارقا يتعقّبها ليستولي على نقودها, و أرعبتها هذه الفكرة, وهي تتصوّر أجرتها الشهريّة التي قبضتها منذ ساعة تطير منها في لحظة زمن؛ إذ كيف ستقضي بقية الشهر؟ وكيف سيكون حالها وحال اسرتها الكبيرة التي لا عائل لها إلاّ هي بعد أن توفّي والدها؟ وفي حركة ما تمكّنت من أن تلمح الشاب الذي كان يتبعها عن كثب, و اطمأنّ قلبها حين عرفت أنّه أحد أبناء حيّها, الذي أحسّت أنّه راح منذ مدّة  يبدي نحوها بعض الاهتمام, كانت تعرف انه من عائلة متواضعة مثلها, و انه مازال طالبا في الجامعة, تدلّ على ذلك الكتب التي كان يحملها في يده كلّما صادفته  صباحا أو مساء  في حافلة النّقل العمومي, و لكنّها لا تدري فأيّ اختصاص, و بالرّغم من تبدّد مخاوفها و شعورها بشيء من الارتياح, بل بشيء من الفخر, أن تكون محطّ اهتمام فتىً مثل هذا الشّاب المثقّف, فإنّها حدّثت نفسها انّه لا يليق  بشاب محترم مثله أن يلاحق ابنة جيرانهم في الشوارع بهذا الشكل, و إذا كانت نيّته طيبة حقّاً فعليه أن يدخل البيوت من ابوابها. وامام مدخل المستشفى الجامعي وقفت في صفّ طويل تنتظر مع المنتظرين لعلّها تظفر بتاكسي لتنقلها إلى حيّهم, لا سيما أنّها أحسّت بالتعب والحرارة, والأهمّ من ذلك أن تنجو باجرتها من شرّ سرّاق النقل العام’ و لاحظت بعد هنيهة أنّ جارهم الطالب قد انظمّ بدوره في الصفّ, وخمّنت انّه قد يكون في هذه المرّة مصمّما على أن يترك خجله ويخاطبها. و في اثناء انتظارها هذا رات في الجهة المقابلة من الساحة حافلة النقل العمومي التي تنقل الركاب إلى حيّهم, فتردّدت برهة بين الاستمرار في انتظار التاكسي و الانتقال إلى محطّة الحافلة, ثمّ حزمت أمرها وانطلقت فجاة نحو الحافلة ناسية ما فكرت فيه من لحظات بشأنها. عندما صعدت الحافلة ووقفت أمام زجاج النافذة, لاحظت أنّ الفتى ابن الجيران قد لحق بها, و عندما التقت عيناهما ابتسم لها’ ولم تستطع أن تمنع بدورها ابتسامة خفيفة ارتسمت على شفتيها. وانطلقت الحافلة؛ اهتزّت أجزاؤها, أزّت مفاصلها, تحت ثقل حملها فلقد كانت مكتظة كعادتها بالركّاب: نساء عائدات إلى بيوتهنّ يحملن قفف المؤونة من سوق الخضر, شيوخ متقاعدون يتثاءبون من شدّة الملل, أطفال مدارس يحدثون صخبا و ضجيجا, شبّان يحلمون بالحصول على منصب شغل, عمّال يفكرون في مصيرهم بعد ان افلست مؤسستهم التي يعملون بها, وجوه ساهمة, أجساد متعبة, أعصاب منهكة, قلوب مثقلة بالهموم.راحت امل  تنظر عبر زجاج النافذة, و غرقت بدورها في أحلامها الخاصّة, أخذت تفكر في الشاب الذي ابتسم لها منذ حين, نسيت في لحظة انّها موظّفة بسيطة في إحدى مؤسّسات البلدية, نسيت أنّها تعول أسرة كبيرة فقيرة مكوّنة من أمّ و ثمانية أخوات و إخوة, نسيت أنّها لا تملك شيئا من متاع الدنيا يجعل الشبّان المقبلين على الزواج يلتفتون إليها, نسيت كلّ ذلك واستسلمت لأحلامها. حين كانت الحافلة تصعد بصعوبة الشارع, مخلّفة وراءها ذيلا طويلا من الضجيج و الدّخان, كانت أمل قد استغرقت في عمق أحلامها, رأت نفسها بعين الخيال وهي تلبس الفستان الأبيض, وتمسك يد ذلك الشاب ابن الجيران الذي ابتسم لها, و تسير في مقدّمة رتل طويل من السيّارات, ملأت الموسيقى أجواء المكان, حلّقت في الفضاء, زمّرت أبواق السيارات, شقّت الزغاريد عنان السماء, خيّل إليها أنّها تسمع دوي الرصاص, دوي قوي, دوي يصمّ الأذان دوي...دوي...انفجار...ثم لا شيء.
عندما فتحت أمل عينيها بالمستشفى, رأت أمّها وإخوتها يتحلّقون حول سريرها, ينظرون إليها في صمت, عيونهم دامعة, وجوههم حزينة, نظرت إليهم في استفهام, لم تجد منهم استجابة التفتت حولها, رأت عائلات أخرى تتحلّق حول أسرّة أخرى, والكل في وجوم, و الكلّ في حزن إلاّ همهمات قليلة و أحاديث متقطّعة وبصوت منخفض سالت أمها:" أين أنا؟ أين نحن؟" أجابتها أمها في حزن:" انت في المستشفى يا ابنتي." فسالت في اندهاش و لهفة:" لماذا انا في المستشفى؟ هل حدث لي شيء؟" و عادت امها تجيبها بنفس الصوت الخفيض الحزين:" اهدئي يا ابنتي لست انت الضحية الوحيدة في الانفجار الذي وقع, هناك من فقد حياته ومنهم بعض من نعرفهم من سكان حيّنا." وراحت امل تستعيد ذاكرتها شيئا فشيئا, وقالت:" تذكّرت ألان لقد كان هناك رتل من السيارات, وكانت هناك موسيقى, وزغاريد, وبارود...نعم كان هناك بارود... ثم انفجار...ولا اتذكّر شيئا أخر...لا تذكّرت كان معي حذاء, حذاء ابيض جميل تتوسّطه زهرة صفراء جميلة... ماذا قلت؟ قلت وقع انفجار؟ قلت هناك من مات من حيّنا ؟"وارتسمت في ذهنها فجاة صورة الشاب ابن الجيران...وصرخت." لا...لا...لا يمكن ان يكون قد مات... لا استطيع ان اتصوّر ذلك؟" وحاولت امّها ان تهدّئها." اهدئي يا ابنتي لم يمت احد من اهلنا ,ولا حتّى من جيراننا الاقربين."قالت امل:" قلبي يقول لي انه مات" وسالتها امها دون تفكير:" من هو هذا الذي مات؟" وارتسم الخجل على وجه امل وحاولت ان تداريه بتغيير الموضوع, فعادت تسال بلهفة عن الحذاء:" هل وجدّتم حذائي الجميل؟ هل وجدتّموه؟ وارتسم الوجوم على وجه الام, وحين الحّت عليها في السّؤال, انفجرت باكية وتجاوب مع بكائها بناتها وابناؤها المتحلّقون حولها, فاندهشت امل لبكائهم وقالت في ضيق:" كل هذا من اجل حذاء؟؟ ليضع البحر عليه ..ساشتري غيره عندما اخرج من المستشفى" وعوض ان ترى امها واخوتها يهدّؤونها, ازداد بكاؤهم وعلا نحيبهم, وسالت مرة اخرى في غيض شديد:" كلّ هذا من اجل حذاء؟" واضطرّت الام ان تجيبها بعبارات باكية:" لا يا ابنتي انّنا لا نبكي من اجل الحذاء, ولكن نبكي لانّك لن تعودي في حاجة الى لبس حذاء..."
 هنا امتدت يد امل في حركة لا ارادية, تتحسّس موقع رجليها, ثمّ صرخت صرخة اهتزّت لها جنبات المستشفى, دخلت على اثرها في غيبوبة كاملة.